الصفحة الأساسية > عربية > الطريق الثقافي > محمود درويش: فلسطين ليست بحاجة الى أساطير إضافية

في حوار ينشرللمرة الأولى بالعربية:

محمود درويش: فلسطين ليست بحاجة الى أساطير إضافية

الجمعة 21 آب (أغسطس) 2009

في حوار يُنشر للمرّة الأولى بالعربية محمود درويش: فلسطين ليست بحاجة إلى أساطير إضافية
صبحي حديدي ) نقلا عن القدس العربي(
11/08/2009

جرى هذا الحوار في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1996، في باريس، ولم يكن غرضه النشر باللغة العربية، بل استكمال وتحديث حوار سابق، صيف 1993، بهدف ترجمة الحصيلة إلى اللغة الفرنسية. ولقد ظهر الحوار، بعدئذ، في الكتاب الشهير La palestine comme métaphore، الذي صدر سنة 1997 عن دار النشر الفرنسية Actes Sud، وتضمّن سلسلة حوارات مع محمود درويش، نقلها عن العربية إلياس صنبر، فضلاً عن حوار نقلته سيمون بيتون عن العبرية.

- يشهد الشعر أزمة واضحة، أبرز مظاهرها ذلك العزوف عن قراءة الشعر. كيف ترى مشهد الشعر، على نطاق عالمي؟

يصعب الحديث عن هذا الأمر دون إلمام كافٍ بالنتاج الشعري في مختلف الثقافات، ولهذا فإنّ الإجابة سوف تكون نسبية ومحدودة بالضرورة، ولا تسمح بإطلاق حكم عامّ. وفي الأساس لا أدري إذا كنتُ أفضل المؤهلين لاستجلاء مشهد على هذا القدر من الضخامة والاتساع.

ثمة مسائل متعددة، حتى إذا كانت متماثلة منهجياً، سواء تطرّقنا إلى الشعر الفرنسي أو الإنكليزي أو الإسباني أو الهنغاري، أو ذهبنا إلى التجارب الجمالية في الصين أو في الهند أو في اليابان، أو تلك القصائد التي ترى النور بصفة يومية، والتي قد لا نتعرّف عليها البتة لأسباب شتى.

وفي كلّ حال، سوف ينبثق السؤال المركزي: من أين نبدأ؟ الأسئلة الأخرى سوف تدور حول هذا التساؤل الأوّلي، كأنْ نستفهم عن المغزى الذي يمكن ان نستمده من حقيقة أنّ ألمع شعراء اللغة الإنكليزية في ربع القرن المنصرم، لم يكونوا من الإنكليز. أو أنّ الشعر المكتوب باللغة الإسبانية لا ينطق عن شخصية البلد الذي ولد فيه، بقدر التعبير عن مجال جغرافي ولغوي إسبانيّ واسع. أو أن نتساءل عمّا إذا كان الشعر الهنغاري مرآة صادقة تعكس مجمل الشعر في أوروبا الشرقية؟
هنالك شاعران يكتبان باللغة الإنكليزية، هما الكاريبي ديريك ولكوت والإرلندي شيموس هيني، أثارا فيّ الإحساس بوجود أزمة في الشعر الإنكليزي. ومثال ولكوت هو الساطع بينهما. فهل نستطيع أن نرى في أعمال هذا الشاعر إنجازاً للغة الإنكليزية؟ ذلك أننا إذا سلّمنا بأنّ ولكوت أغنى هذه اللغة، فهل نستطيع القول إنه يدين لها بثراء تجربته الشعرية؟ ليس ولكوت نتاج اللغة الإنكليزية، ولكنه نوع من البوتقة التي صنعتها تأثيرات متقاطعة لثقافات عديدة، ولغات وأمكنة وأزمنة. رحلة عميقة في الشعوب والتاريخ، أنتجت ظاهرة شعرية استثنائية. ولقد شاءت المصادفة أن يتجلى ذلك الشعر في اللغة الإنكليزية، وكان يمكن له أن يظهر في أية لغة أخرى.

وبالقدر ذاته كان اطلاعي على الشعر اليوناني يطمئنني دائماً على عافية الشعر بصفة عامة، ربما بسبب هوّيته المحددة، وعلاقة الحاضر اليوناني بالماضي الكلاسيكي لبلاد الإغريق. شعراء كبار، من أمثال كافافي وسيفيريس وإليتيس وريتسوس، تركوا أثراً بالغاً في الشعر المعاصر، وليس في وسعنا قراءة ديوان هذا العصر دون أن نرى بصماتهم.
عند العرب، ما يزال التجريب قائماً حتى يومنا هذا، وذلك ما يجعل انجازهم منحصراً في سلسلة مقترحات تأسيسية. فإذا تساءلنا عن قدرة القصيدة على تجديد وتوطيد علاقة مع التاريخ واللغة والآخر، فإننا سنجد لدى العرب نماذج عديدة تغني المشهد الشعري العالمي.

ولدي إحساس بأنّ أزمة الشعر باتت خلفنا، وبأننا اليوم في طور النقاهة.

-  في أيامنا هذه بصفة محددة، ماذا تعني لك حقيقة أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت منح جائزة نوبل للأدب إلى شاعرين وشاعرة، ولكوت، وهيني، وفيسوافا شيمبورسكا؟

لعلّ هذا يؤكّد أنّ الشعر يتعافى من أزمته، أو ما كنّا نعتقد أنه أزمة. ولعلّ الشعر لم يكن يعاني من أزمة ’عضوية’ شاملة، من النوع الذي يجرّ معه نظريات تقول بسيادة الرواية على الشعر مثلاً، أو بأنّ القارىء الراهن يجد نفسه في النص السردي أكثر من النصّ الشعري، أو أنّ لغة الحياة اليومية باتت أكثر تعقيداً من أن تحتمل خصوصية اللغة الشعرية. وفي جميع الأحوال، يجب أن لا ننسى أنّ شروط ’المنافسة’ تبدو صعبة للغاية بين الفنون الإبداعية إجمالاً ـ والشعر بصفة خاصة ـ من جهة أولى، وبين وسائل الاتصال الجبارة الأخرى مثل التلفزيون والكومبيوتر والإنترنيت.

ولا أدري إذا كانت الأكاديمية السويدية قد وضعت هذا التفصيل بعين الاعتبار حين منحت جائزتها الأدبية إلى ثلاثة شعراء خلال خمس سنوات. أقصد القول إن الأكاديمية قد تكون أدركت ضرورة اتخاذ موقف يساند الشعر في معركته الصعبة أمام الأشكال الأخرى لإنتاج وتداول المعرفة، وأمام التطورات المعقدة الهائلة التي تشهدها كل يوم أنظمة الاستقبال وأعراف القراءة.

وأشير هنا إلى نقطتين تستكملان ما تحدثنا عنه من قبل:

  • الأولى هي أنّ القرن العشرين كان قرن الشعر بامتياز، تماماً مثلما كانت الفلسفة هي نتاج الإنسانية الأرفع والأبرز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومنذ العقد الأول في هذا القرن الخصب انطلقت مشروعات شعرية كبرى في مختلف لغات وثقافات العالم، في أوروبا وأمريكا، وفي الهند واليابان، وفي أمريكا اللاتينية، وفي أمكنة أخرى عديدة ما نزال نكتشف نتاجاتها الشعرية يوماً بعد يوم، وعلى هيئة ’مفاجآت سارّة’ دائماً.
  • النقطة الثانية أن الشعر اتسم باستقرار نسبي على صعيد النوع، أي الأشكال والتجارب والأساليب والمدارس الفنية، واستطاع أن يحافظ على ديناميكية حيّة رغم العواصف الكبرى التي شهدها هذا القرن سواء داخل التيارات الشعرية هنا وهناك في العالم، أو على مستوى هزّات كبرى من نوع الحربين العالميتين. وبالمقارنة مع ما تشهده الرواية من أزمة عميقة أمام هجمة الرواية البوليسية أو رواية الخيال العلمي أو الرسوم المتحركة، فإنّ الشعر استطاع على الدوام التقاط أنفاسه في ذروة التأزّم، قبل أن ينتقل إلى شوط جديد من الاستقرار والتطوّر والتجدد.

أوافقك أننا قد لا نستطيع إدراج تجربة ولكوت في سياق الشعر الإنكليزي، أو حتى الغربي، رغم أنه يستخدم الإنكليزية وحدها وأفضل مما يفعل أهلها أحياناً. ماذا عن الشعر المكتوب بالإنكليزية في العالم الأنغلو ـ ساكسوني الآن؟ ماذا بعد إليوت وباوند؟ وكيف تقرأ ألن غنسبرغ على سبيل المثال؟

أقرأ ما يتيسّر لي من نتاج شعري جديد باللغة الإنكليزية، وأنت تعلم أنّ متابعة صورة نصف شاملة لهذا المشهد الواسع مسألة صعبة للغاية، فكيف بتكوين صورة شبه شاملة. كان ولكوت وهيني آخر من قرأت بعمق، ولا أكتم انحيازي إلى ولكوت لأسباب عديدة تتعلق بالقرابة (المباشرة وغير المباشرة) التي تجمعنا بعوالمه وموضوعاته ولغته، وحتّى حواسه وأشكال تمثيله المجازي للعالم.

وآخر ما قرأت من قصائد غنسبرغ لم يذكّرني بقصائده العظيمة التي كتبها في أواخر الخمسينات وأواسط الستينات، مثل Howl و Kaddish، ولكنني أحسست بأن غنسبرغ التسعينيات ليس صوتاً مغترباً أو غريباً عن المشهد الشعري الأمريكي المعاصر، بل هو جزء منه وتجربة مشاركة في صُنْعه. لقد تراجعت هموم وجماليات الجيل الشعري الذي كان يُسمّى الـ Beat Generation، وهذا أمر طبيعي، ولكنها أخلت المكان لهموم وجماليات جديدة تليق بعصر وزمن وذائقة أواخر القرن.

-  والشعر الفرنسي؟ ماذا بعد رينيه شار مثلاً؟

رينيه شار كان آخر الكبار في الشعر الفرنسي كما أعتقد. ولكني لا أستطيع إغفال صوت شعري كبير مثل إيف بونفوا تحديداً، ثم بعده أوجين غيللفيك. ومن جهة أخرى، أراقب بأسف انسحاب الشعر الفرنسي بعيداً عن ذلك الزخم النوعي الذي دشنّه كبار من أمثال بودلير ورامبو ومالارميه، ثم تابعه أراغون وإيلوار وفاليري وبريفير وبيرس، وصولاً إلى رينيه شار وهنري ميشو وبونفوا.

وعند رينيه شار بالذات أجد تلك النوستالجيا التراجيدية إلى ذاكرة تمتزج فيها الطفولة بالمكان الرعوي، أو المكان الذي يختصر الوطن. وهي نوستالجيا تحيل المكان إلى جغرافيا كونية تقبل كيمياء التاريخ العام والوجدان الذاتي، السحر والأسطورة، الأرض وعناصر الطبيعة، والكائن الحاضر في هذا الاختلاط العريض. ولقد ظلت أبجديته الشعرية مرهفة في مواجهاتها لتلك الجغرافيا بصرف النظر عن أطوار شار نفسه: الشاعر، والعاشق، والمقاوم، والمناضل البيئوي.

-  وماذا عن شعر أوروبا الشرقية إجمالاً، وشيمبورسكا بصفة خاصة؟

أعتقد أن ازدهار الشعر اتسم، على الدوام، بما يشبه دورات الترحال الكبرى بين الشعوب والثقافات. تارة نحن في اليونان، وأخرى في آسيا. مرّة نكون في إسبانيا، وأخرى في المكسيك، وهكذا. وإنني أرى أننا لا نشهد اليوم حركة انبعاث للشعر في أوروبا الشرقية، لأن هذا الشعر كان موجوداً من قبل وإن تفاوتت مستوياته الفنية في هذا الطور أو ذاك. ما نشهده يدخل في سياق الموعد الذي يُعطى ـ ضمن سلسلة شروط تاريخية وثقافية وجمالية ـ لثقافة بعينها كي تسرد روايتها ورؤيتها وتجربتها، بعد تغييبها لزمن يطول أو يقصر ولسلسلة أخرى من الشروط التاريخية والثقافية والجمالية.
ولا أزعم أنني قرأت شيمبورسكا مثل قراءتي لشعراء آخرين مواطنين لها، من أمثال زبغنيو هربرت وشيسواف ميوش وتاديوش روجفتش. ولكن النماذج التي قرأتها لها تجعلني أعيد التأكيد على وجهة نظري من أننا نجهل الكثير من التجارب الشعرية العالمية، وأنّ هذا القرن لا يكفّ عن مفاجأتنا بين الحين والآخر.

- دعني أنتهز فرصة حديثك عن الملحمية والأسطورية فأنتقل من مجموعة ’أحد عشر كوكباً’ إلى مجموعتك الأخيرة ’لماذا تركت الحصان وحيداً’، وأستخدم مفاتيح مثل ’أريحا’ و’أرض كنعان الجديدة’ لإقامة صلة بين قصيدة ’على حجر كنعاني’ وأكثر من قصيدة واحدة في المجموعة الأخيرة. أين تنتهي الأسطورة، وأين تبدأ ملحمية الشخصية الأسطورية؟

في القصيدة التي تشير إليها أقول:

- والآن في الماضي أضيء لحاضري
- غَدَه... فينأى بي زماني عن مكاني
- حيناً، وينأي بي مكاني عن زماني
- والأنبياء جميعهم أهلي، ولكن السماء بعيدة
- عن أرضها، وأنا بعيد عن كلامي...

وإنني أرى أنّ اللجوء إلى الأسطورة في الشعر يضعف طاقة التفجير الملحمي لحركة الماضي في الحاضر، ولقدرة الذاكرة المعاصرة على إيجاد مُثلٍ ملحمية لها في تجارب الماضي عند شعب ما، خصوصاً إذا كانت ثقافة ذلك الشعب حافلة بتلك المثل الملحمية. وإذا لم تخنّي الذاكرة، كان كلود ليفي ـ ستروس قد أشار إلى أنّ النسق اللازمني هو الذي يمنح الأسطورة قيمة حَرَكية تجعلها تفسّر الماضي والحاضر والمستقبل... خارج الزمن.

وبهذا المعنى فإن استخدام الأسطورة ضمن أنساق ساكنة يمكن أن يؤدي إلى تجميد الزمن، وتحويل الواقع إلى ميتا ـ واقع كما يعبّر الفلاسفة، أو حصر النصّ في محيط الأسطورة وحكايتها الأصلية، وفي تاريخ الشخصية الأسطورية بما يعنيه ذلك من دلالات ورموز وإيحاءات تظل ذات ثبات نسبي مهما تنوّعت صياغاتها أو إعادة صياغتها. وفي جميع الأحوال، لسنا بحاجة إلى أساطير إضافية كي نقترب من المحتوى الملحمي لتاريخ أريحا أو أرض كنعان، فالأسطورة هنا لا تنتهي لأنها أصلاً تتواصل في الزمان والمكان، وتجدد طاقتها الملحمية دونما حاجة إلى نصّ أعلى، وتأبى بطبيعتها أي احتمالات لتجميد الزمن. وحين أعتبر أن نصوصنا تراجيدية، فلكي أشدد على حاجتها إلى سرد حكاية نفسها، لتعرف نفسها وتتعرّف على الآخر أيضاً. ومن هنا العلاقة بين النصّ المقيم على الأرض وفي الذاكرة، والنصّ الآخر الذي تسحبه الأسطورة إلى دلالات أقل وضوحاً، وبالتالي أضعف قدرة على تسجيل الحكاية الغائبة أو المغيَّبة.

-  اسمح لي أن أتوقف هنا عند شخصية أسطورية محددة، وعند قصيدة ’أطوار أنات’ بالذات، فأسأل: أي أناة تريد؟ أناة الكنعانية، أم إنانا السومرية، أم عشتار البابلية، أم إيزيس المصرية؟ وماذا عنها وهي ’تطير خلف مراكب الإغريق، في اسم آخر’، أي تصبح أناة الهيللينية، أفروديت ربما؟ ومن جهة ثانية، أهي أناة التي ’تعيد الماء للينبوع’ أم تلك التي ’تقود النار في الغابات’؟

أظنّ أنها صورة مركّبة من ذلك كله، أو هي مخلوق المجابهة الجدلية بين أناة المنتمية إلى بلاد الرافدين وحوض المتوسط من جهة، وأناة الهيللينية كما تهاجر خلف مراكب الإغريق من جهة ثانية. إنها أيضاً أطوار هذه الانقلابات في الزمان والمكان، والبقاء غريبة ومنتمية في آن معاً، في العالم الحقيقي وفي ’العالم السفلي’، في صيغة التنازع بين ’امرأتين لا تتصالحان’. وفي جميع الأحوال، هي أناة الخصب والنماء والتجدد، التي تقوم ملحمية وجودها على الرجوع ’إلى أرض الحقيقة والكناية/ أرض كنعان البداية’، وعلى العودة من جديد إلى ’أرض كنعان البداية’ لكي ’تعود المعجزات إلى أريحا’.
وهكذا، كما ترى، نحن أمام مثال جديد حول ملحمية الشخصية الأسطورة. هل في وسع أنات مثل هذه أن تكتفي بحكايتها الأسطورية؟ هل في وسعنا أن نكتفي برموزها الأسطورية، هذه الأيام بالذات؟

-  تقول في القصيدة ’ربما وجد الرعاة الماكرون إلهة، قرب الهباء وصدّقتها الكاهنات’؟ أي رعاة هؤلاء؟ وهل يصحّ الحديث عن انحياز لصالح الإلهة المؤنثة أمام الإله الذَكَر... يهوه مثلاً؟

ليس يهوه وحده، بل الإله الذَكَر إجمالاً. أنت على حقّ، والانحياز إلى العنصر الأنثوي يتكرر مراراً وعلى أكثر من صعيد في هذه المجموعة تحديداً. ولست أزعم أنني أفعل ذلك دفاعاً عن الأنثى في وجه مناخ معمم من السيادة البطريركية التي تحضر في الأسطورة أيضاً. لا أدري إذا كنت أجد الأنوثة في فلسطين ذاتها، منساقاً وراء دلالات الانبعاث والقيامة والخصوبة والتقاليد الزراعية في شخصيات مثل العنقاء وأناة. ولعلّي أيضاً أجد جاذبية خاصة في شخصية الأنثى بوصفها الغريبة الأبدية، الغامضة والواضحة، المنفى والموطن، البئر، والغجرية التي لا تعبر في بلد مرّتين.

- ولكن ماذا عن الحضور الكثيف لشخصية السيد المسيح؟ أهي مصادفة محضة أنّ عدد قصائد مجموعتك الأخيرة هو 33، بعدد سنوات عمر يسوع؟

لعلها ذلك النوع من المصادفات التي تنشأ عن منطق داخلي لا تحكمه المصادفات أبداً! في كل حال، إنني أشعر بخيلاء خاصة لأنني أنتمي إلى البلد الذي أنجب يسوع، وكان حاضنة لأخلاقيات استثنائية في التسامح والفداء والانحياز إلى صفّ الفقراء والجائعين والمعذبين والمرضى. وإذ يشهد العالم أكثر من جلجلة في كل يوم، فإنني أسترجع بكثير من الاعتزاز حقيقة أن الجلجلة الأولى بدأت في فلسطين. وهو استرجاع يشحذ وعيي الشخصي، ويسلّحني بقوة أخلاقية خاصة، ويفتح أمامي فضاء إنسانياً رحباً، ويكشف بالتالي قدراً كبيراً من الضباب الذي يمكن أن يحجب آلام وآمال الآخرين.
أنت هنا تذكّرني بقصيدة ’... عندما يبتعد’، التي يبدأ عنوانها من ثلاث نقاط، ويُفتتح سطرها الأول بكلمة: ’للعدو’، ثم يُفتتح ويُختتم بعض مقاطعها بثلاث نقاط أيضاً. أهي علامة على مواصلة كلام عن العدو، لم ينقطع؟ هل سينقطع في أي يوم؟

ربما كان حواراً مع الذات حول العدو، ومحاولة لرصد صورته الأخرى عندما يشرب الشاي في كوخنا نحن، ويحدّثنا عن شوقه لابنته ذات الشعر الطويل، ويستريح قليلاً من البندقية، ويأكل من خبزنا، ويغفو قليلاً على مقعد الخيزران، ويحنو على فرو قطّتنا... وهي حوار معه، ومع الذات، حول صورته حين تلمع أزرار سترته العسكرية، وحين يمشي على ظلنا في حقول الشعير، يخرج من كوخنا الخشبي الذي نقيم فيه، ليمضي نحو بيتنا الحجري الذي أقام فيه. هو الغريب الذي يقرأ شعراً حول طيار ييتس، ويطالبنا بعدم لوم الضحية، ونطالبه بأن يسلّم على بيتنا. وهو الغريب/ العدوّ الذي يسمع الكلام الذي كان في ودّنا أن نقوله له، ثم ’يخبئه في سعال سريع/ ويلقي به جانباً، ثم تلمع/ أزرار ستراته عندما يبتعد’.
هو بالتالي حوارنا الذي لم ننطق به بعد كما نريد، والذي يسمعه هو دون أن ننطق به، ولكنه الحوار المنقطع بالضرورة ما دام يقيم في بيتنا الحجري ونقيم نحن في الكوخ، وما دام يلقي بالحوار جانبا، ويبتعد.

أهل البيت في هذه القصيدة يسألون العدوّ/ الغريب أن يسلّم على البئر. والبئر يتكرر مراراً، وهنالك قصيدة كاملة تحمل اسم ’البئر’. ما هي المستويات الدلالية لآبار محمود درويش، وهل يسكنك البئر في هذا الطور، مثلما سكنك البحر في طور سابق من تجربتك؟

البئر هو الماء ونقيض العطش. وهو علامة الحياة حين يكون الجدب هو السائد. والبئر نقطة استقطاب للكائنات من بشر ووحش وطير، وشرط لا غنى عنه للإقامة واختيار الموطن. والبئر، من جهة ثانية، هو العمق السحيق، والغموض، والاقتراب من باطن الأرض، وربط السطح بالقاع. والبئر قد يجمع التاريخ الفردي ضمن التاريخ الجمعي، خصوصاً حين يقترن بفكرة تعميم الخيرات وتقاسمها والدفاع عنها.

وإلى جانب هذه المعاني وسواها، اقترنت البئر عندي في قصائد السنوات الأخيرة بحكاية يوسف وأبيه وأخوته، وبفكرة الضحية التي تعاني من الأقربين ،الأصدقاء، أو يحوّلها هؤلاء إلى ضحية أو قربان. كذلك اقترنت البئر بصورة الرحم الذي يمتلئ بالسماء، ويفيض بالمعنى، ويمنح الولادة الأولى.

وكانت العرب تعتبر البئر أهمّ صك لامتلاك الأرض!

نعم، هذا صحيح.

-  أريدك أن تستطرد قليلاً في التعليق على تعبير ’الغنائية الملحمية’. كيف تناقش كل مصطلح على حدة، أي الغنائية والملحمية؟

الأمانة تقتضي أن أقول إن أوّل من استخدم هذا التعبير كان الشاعر اليوناني الراحل يانيس ريتسوس، خلال كلمة ألقاها في أثينا ضمن ندوة مخصصة لتكريمي، وشاركت فيها الفنانة ووزيرة الثقافة الراحلة ميلينا ميركوري. ولقد وجدت شخصياً أنه يصف مشروعي الشعري على نحو دقيق، إذ لم أكن أرى أي وجه للتناقض بين الغنائية والملحمية.

المشكلة تنشأ عن مقدار الالتباس الذي يحيط بطرفَي التعبير عندنا في العالم العربي، وهي المشكلة الإصطلاحية التي تنسحب على العديد من المفردات النقدية. الغنائية ليست الغناء الرومانتيكي أو التروبادوري وحده، مثلما أن الملحمة ليست مجموعة تنويعات بطولية عن حكاية هوميروسية واحدة. وإنني أجد الكثير من الملحمية في النماذج الأكثر غنائية من نصوص سان جون بيرس، وأجد الغنائية الرفيعة في تلك القصائد التي كرّسها بابلو نيرودا لموضوعات ملحمية صرفة، وهذا هو حال لوركا وباوند وطاغور، وأنا أعطي أمثلة فقط.

الموضوعات البطولية التقليدية انتهت جمالياً ومعرفياً وتاريخياً، وأخلت المكان للتراجيديا الجمعية التي لا تستطيع إلا أن تنشأ عن مجموعة معقدة من التراجيديات الفردية، واصطدام الأنا بالمجموع تارة، أو انخراط المصير الفردي للأنا بالمصير العميم للمجموع. وبهذا المعنى، فإن النصوص التي تعكس ميلاً غنائياً ـ ملحمياً أخذت تدور حول موضوعات كونية مثل الالتقاط التراجيدي للتاريخ، والتعبير عن الوجدان العام إذْ يواجه حالات الفَقْد والرثاء والحِداد، وما إلى ذلك.

-  يقيم أوكتافيو باث علاقة وطيدة بين الكتابة الإيروتيكية والتصوّف، ويرى أن العشق الصوفي هو ذروة الإيروتيكي. كيف تعلّق على هذا الرأي؟

وله أيضاً رأي طريف يقول فيه إن القافية هي حال الكلمات حين تمارس الجِماع! نعم، هو على حقّ في الربط بين الوجد الصوفي والعشق الإيروتيكي، في النماذج الرفيعة من هذا النوع من الكتابة بطبيعة الحال.

وفي نصوص التصوّف العربية والإسلامية شدّتني على الدوام هذه الرغبة العارمة في أنسنة المقدّس عن طريق إعادته إلى المستويات الشعورية للنفس الإنسانية، وتمثيله في حالات جامحة من الشوق إلى المحبوب والاتحاد به. ولا تعنيني كثيراً المحتويات اللاهوتية للنصوص الصوفية، بقدر ما أتوقف عند المرونة الكبرى التي اكتسبها النص الصوفي حين برع في توظيف الموضوع الإلهي بما يخدم تحرير اللغة من أغلال المحظور، وإطلاق المخيّلة على عنانها، ودمج الروحي بالحسّي.
وفي الأدب لا يستطيع النص الإيروتيكي الأصيل إلا أن يرتقي بالمفردات المألوفة لأي قاموس حسّي حول الجسد، إلى مستوى القاموس الروحي المتحرر من القيود الدلالية التقليدية التي تهيمن على الموضوع الجنسي.