الصفحة الأساسية > عربية > الطريق الإقتصادي > بيانات حول الظّرف الاقتصادي التّونسي : تأثيرات الأزمة العالمية على اقتصاد (...)

بيانات حول الظّرف الاقتصادي التّونسي : تأثيرات الأزمة العالمية على اقتصاد تونس

السبت 21 آذار (مارس) 2009

فتحي الشّامخي

يتميّز الوضع الاقتصادي العالمي باستعصاء الأزمة الماليّة رغما عن الإجراءات والبرامج الحكوميّة لتطويقها، خاصّة منها الهبات الماليّة العموميّة، غير المسبوقة، للمؤسّسات الماليّة المتسبّبة في الأزمة. لكنّ كافة هاته التّدابير، على الرّغم من سخائها وأهميتها، لم تفلح إلى حدّ الآن في إخماد حريق الأزمة، وما أن يتمّ إخماد نار موقد حتّى تشتعل مواقد أخرى.

تكوّنت الأزمة الماليّة في قلب النّظام الرّأسمالي العالمي، أي داخل الاقتصاد الأمريكي، ثمّ بفضل العولمة اكتسحت في مدّة قياسيّة أبرز السّاحات الماليّة العالميّة، مغذّية في نفس الوقت أزمات عديدة أخرى (أزمة الطّاقة، أو الأزمة الغذائيّة)، لتطال في الختام قطاعي الإنتاج والتّجارة متسبّبة في دخول أغلب اقتصاديّات البلدان الصّناعيّة، وكذلك أبرز اقتصاديات المحيط الرأسمالي في مرحلة انكماش اقتصادي. وهي الآن بصدد اكتساح بقيّة أقطار العالم بما فيها تونس.

كيف يمكن أن يؤثّر الوضع الاقتصادي العالمي على سير النّشاط الاقتصادي في تونس؟ وما هي النتائج المسجّلة في الآونة الأخيرة على مستوى أبرز مؤشّرات الاقتصاد المحلّي ؟

علينا أن نذكّر في البداية بحقيقة أنّ السّلطة التّونسيّة قد تمكّنت، خلال العشرين سنة الأخيرة، برعاية المؤسّسات الماليّة الدّوليّة والاتحاد الأوروبي (بفضل برنامج التعديل الهيكلي منذ 1986 والشّراكة الأورومتوسطيّة بداية من 1996)، من إعادة هيكلة الاقتصاد على المنوال الرّأسمالي الليبرالي.

تطلّب هذا التحوّل الرّأسمالي الليبرالي خوصصة جزء هامّ من قطاع الإنتاج العمومي شملت إلى حدّ الآن 217 شركة، استحوذ على أغلبها الرأسمال الأجنبي الذّي بلغت حصّته من إجمالي قيمة الخوصصة (حوالي 6 آلاف مليون دينار) نسبة 87%. كما تطلّب ذلك الزّيادة في درجة تبعيّة الاقتصاد المحلّي للسّوق العالميّة، حيث بلغت نسبة اندماجه فيها 123%، ومزيد رهن النموّ الاقتصادي بالاستثمار الأجنبي المباشر وبحيويّة الصّادرات وفق إيديولوجيا نمط النموّ الذّي تجرّه الصّادرات. وقد بلغ هذا المسار ذروته بداية من جانفي 2008 بعد استكمال إقامة منطقة تبادل حرّ مع سوق الاتّحاد الأوروبي.

ويتّضح ممّا وقع ذكره أنّ النّظام الاقتصادي الرّأسمالي اللّيبرالي الذّي جرى تركيزه في تونس منذ 1987، هو نظام متناغم مع نظام العولمة الرّأسماليّة الليبراليّة وبالتّالي شديد التأثّر بتقلّباتها. علما بأنّ الانتقال من نظام رأسماليّة الدّولة إلى الرّأسماليّة الليبراليّة قد تتطلب من جانب السّلطة القائمة، في المجالين الاجتماعي والسّياسي، تفكيك دولة الرّعاية بالتّوازي مع تعزيز تأطيرها الأمني للمجتمع، الذّي هو تبعا لذلك منزوع السّلاح في مواجهة تأثيرات الانكماش الاقتصادي العالمي، ممّا يزيد في إضعاف قدرات الاقتصاد المحلّي على الصّمود بما يجنّب البلاد تكبّد خسائر اقتصاديّة واجتماعيّة يمكن أن تكون فادحة تعفّن الأزمة.

ليس من الغريب إذن أن تعرب الحكومة عن مخاوفها أمام هكذا وضع، حيث ورد في دوريّة البنك المركزي التّونسي لشهر سبتمبر 2008 أنّه: "يوجد احتمال حول تأثّر الاقتصاد التّونسي جرّاء الأزمة الاقتصاديّة الرّاهنة نتيجة انكماش الطلب الخارجي، خاصّة منه المتأتّي من الاتحاد الأوروبي الذّي سيشهد انكماشا اقتصاديا خلال 2009. أمّا القطاعات التّي سوف تطالها هذه التّأثيرات فهي الصناعات الميكانيكيّة والكهربائيّة والنّسيج والملابس والنّشاط السّياحي والنّقل الجوّي، مع احتمال أن تطال أيضا الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة في القطاعات التصديريّة وبعنوان المشاريع الكبرى."1 فيما أكّد البنك في تقريره الموالي2 هذه المخاوف مقرا بأنه: "سجّل تراجع طفيف للقطاع الفلاحي والصّيد البحري وتباطؤ لنسق ازدياد الإنتاج الصّناعي خلال 2008".

في الحقيقة بدأت آثار الانكماش العالمي على النّشاط الاقتصادي في تونس تبرُز بشدّة خلال الثّلاثيّة الأخيرة من 2008، وتفيد المعطيات المتوفّرة حول بداية 2009 تعمّقا لهذا النّسق.

فقد سجلت صادرات كافة قطاعات الإنتاج المحلي تراجعا ملموسا (-17,1(% خلال شهري جانفي وفيفري 2009 مقارنة بنفس الفترة من السّنة الماضية. على عكس نتيجة 2008 من نفس الفترة التّي سجّلت ارتفاعا 23,3% مقارنة بنتيجة 2007. أمّا القطاعات الأكثر تضرّرا فهي على التّوالي قطاع المناجم والفسفاط ومشتقاته بنسبة تراجع 33,7% ثمّ تجهيزات النّقل (-30,5%) وقطاعي الفلاحة والصّناعات الغذائيّة (-23,7%) والجلد والأحذية (-20,3%).

قطعا لا تبعث هذه النتائج السيّئة للغاية على الاطمئنان على سير النّشاط الاقتصادي للسّنة الجارية. ثمّ إنّ ما يزيد في تغذية هكذا مخاوف إنّما هو شدّة ارتباط الصّادرات المحليّة بالسّوق الأوروبيّة التّي تستوعب بمفردها 82,5% من قيمتها، خاصّة نحو فرنسا (?) وإيطاليا (?) ثمّ ألمانيا وإسبانيا والمملكة المتّحدة، التّي تشهد تراجعا هامّا في إنتاجها نتيجة انكماش الطّلب الدّاخلي الذّي يتغذّى بدوره من ارتفاع البطالة وصعوبة قروض الاستهلاك والاستثمار على السّواء، وكذلك نتيجة تراجع الصّادرات والاستثمار، خاصّة في كلّ من فرنسا وإيطاليا الشّريكتان التّجاريّتان الأساسيّتان لتونس، التّي يتوقّع صندوق النّقد الدّولي بشأنهما نسب نُموّ سلبيّة خلال السّنة الجارية ستبلغ 1,9% بالنّسبة لفرنسا و2,1% لإيطاليا. لذلك سيظلّ مصير جزء هامّ من النّشاط الاقتصادي المحلّي رهن تطوّر الأزمة في منطقة الاتحاد الأوروبي، خاصّة منها فرنسا وإيطاليا.

وممّا يزيد في هشاشة الاقتصاد المحلّي هو تحكّم الرّأسمال الأجنبي في 54% من إجمالي صادرات البلاد سنة 2008. كما ترتفع هذه النّسبة بشكل ملحوظ في قطاعات صناعيّة تُعدّ من أبرز قطاعات النّشاط الجارّة للنموّ الاقتصادي، أهمّها قطاع الصّناعات الميكانيكيّة والكهربائيّة، التّي تشهد منذ عدّة سنوات نموّا لافتا، وهي تمثّل 27% من القيمة الجمليّة للصّادرات. فيما بلغت حصّة الرأسمال الأجنبي من القيمة الجمليّة لصادرات هذا القطاع 87%. كما يشهد قطاع النّسيج والملابس والجلد، الذي يحقّق بمفرده حوالي 31% من الصادرات التونسيّة، وضعيّة شبيهه من حيث مستوى سيطرة الرّأسمالي الأجنبي.

لقد تمكّن هذا الأخير، بفضل السّياسة الليبراليّة، من التغلغل في الاقتصاد التّونسي والسّيطرة على قطاعات اقتصاديّة حيويّة، سواء نتيجة لسياسة الخوصصة أو بفضل سياسة التحرير والتشجيع المتواصل الذّي يلقاه من السلطات التّونسيّة.

وتعكس هيكلة الاستثمار الأجنبي المباشر في حدّ ذاتها تبعيّة الاقتصاد التّونسي تجاه المصالح الرّأسماليّة العالميّة في إطار "التّقسيم الدّولي للعمل"، في مقدّمتها المصالح الفرنسيّة التّي تمثّل بمفردها ربع الاستثمار الأجنبي، حيث يتحكّم هذا الرّأسمال، بصفة جزئيّة أو كليّة، في 1180 شركة تشغّل أكثر من 106 ألف أجير. ويأتي الرّأسمال الإيطالي في المرتبة الثانية.

أمّا إجمالي الرّأسمال الأجنبي المتواجد في تونس فإنّه يتحكّم بدرجات متفاوتة في حوالي 3000 شركة تشغّل زهاء 300 ألف أجير. يتركز هذا الاستثمار بشكل خاصّ في قطاع التنقيب واستغلال النفط والغاز الطبيعي، ثم في قطاع الصّناعات المعمليّة وفي قطاعي السّياحة والخدمات المصرفيّة.

نأتي الآن إلى مؤشّر الإنتاج الصناعي الذّي يمكّن من التعرّف على سير النّشاط الصّناعي كما على مستوى حيويّة مختلف قطاعاته. وفي هذا الصّدد أبرزت إحصائيّات المعهد الوطني للإحصاء تباطؤ نسق نموّ الإنتاج الصّناعي خلال 2008 (+3,3) مقارنة بالزّيادة المسجّلة سنة 2007 (+11). ويعزى هذا التباطؤ إلى الفتور الذّي اعترى النّشاط الصّناعي بداية من شهر نوفمبر، حيث انخفض مؤشّر الإنتاج الصّناعي من 129,7 خلال شهر أكتوبر إلى 125,8 أثناء نوفمبر ثمّ 123,4 في ديسمبر.

أمّا على المستوى القطاعي، فإنّ الصّناعات الميكانيكيّة والكهربائيّة هي التّي تبدو الآن المتضرّر الأساسي، حيث تراجع مؤشّر إنتاجها من 273,6 في أكتوبر إلى 199,7 في ديسمبر. فيما واصلت الصّناعات الكيميائيّة تقهقرها إلى مستوى 80,1 أي أقل بعشرين نقطة من مستوى سنة 2000 (=100). بالإضافة إلى ذلك لا تزال عديد القطاعات الصّناعيّة تراوح مكانها على غرار النّسيج والملابس والجلد (101,5) والمناجم (104,5) ومواد البناء (115).

أمّا على مستوى التمويل الخارجي للنّشاط الاقتصادي الذّي يعدّ من أبرز عوامل تبعيّة الاقتصاد المحلّي للرّأسمال العالمي، وبالإضافة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر فإنّ جزءا هامّا من هذا النّشاط، كما نفقات السلطات العموميّة، يتوقّف على الاقتراض الخارجي في الأسواق الماليّة العالميّة، وفي إطار العلاقات الثنائيّة، وكذلك لدى المؤسّسات الماليّة الدّوليّة والإقليميّة. ولقد أضيف إلى هذه الوسيلة منذ سنة 1987 مصدر آخر يتمثّل في الخوصصة، وثالث مزدهر بشكل خاصّ يتمثّل في نظام الامتيازات على طريقة "شيّد، امتلك واستغلّ" لمدّة زمنيّة عادة ما تفوق الأربعين سنة قابلة للتجديد، في حين أنّه لا يخلو من مخاطر بالغة ضدّ السّيادة الوطنيّة التّونسيّة.

تلجأ الدّولة التّونسيّة بصفة متواصلة إلى الاقتراض الخارجي سواء لتسديد خدمة الدّين الخارجي أو لتمويل ميزانها السّنوي. لكن على اثر اندلاع الأزمة الماليّة العالميّة شهدت شروط الاقتراض داخل الأسواق الماليّة العالميّة تدهورا صريحا خاصّة بالنسبة لأقطار الجنوب، وهو ما اعترف به محافظ البنك المركزي التّونسي: "لهذه الأسباب (تدهور شروط الاقتراض) لم تتوجّه تونس إلى الأسواق الماليّة سنة 2008، ولقد اقترح البنك المركزي على الحكومة عدم التوجّه ثانية إلى هذه الأسواق خلال 2009، والعمل على تعبئة الموارد الماليّة التّي يتطلّبها ميزان الدّولة كليّا داخل السّوق المحليّة..." (تونس أفريقيا للأنباء),

يُراهن المخطط الحادي عشر (2007-2011) على معدّل نموّ سنوي يفوق 6% قصد تحقيق "أهداف التّنمية"، خاصّة منها توفير نصف مليون موطن شغل خلال الخمسة سنوات القادمة، أي بمعدّل 100 ألف شغل جديد في السّنة. لكنّ نسبة نموّ الإنتاج في 2008 جاءت دون ذلك واقتصرت على 5,1%، وعلى الرّغم من أنّها دون ما تحقّق في 2007 أي 6,3%، إلاّ أنّها مهيّأة للإنخفاض حينما يقع الأخذ بعين الاعتبار النّتائج السيئة لشهري نوفمبر وديسمبر 2008، ومن المتوقّع أن تنخفض دون 5%. لكنّ النّتائج المرتقبة لسنة 2009 سوف تكون أسوأ بكثي،ر بعد أن أكّدت حصيلة جانفي وفيفري دخول الاقتصاد التّونسي في انكماش.

ما من شكّ في أنّ هذا الانكماش سوف يتسبّب في دمار اجتماعي يتسع مداه بقدر ما تستمرّ الأزمة وتتعمّق، وكذلك بقدر ما تكون الطّبقات الشعبيّة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة، عاجزة عن الدّفاع عن مصالحها، ممّا يطرح بدوره قضيّتين أساسيّتين: تتعلّق الأولى بمسألة استقلالية الّتّمثيل العُمّالي، وتتعلّق الثّانية بالمسألة الدّيمقراطيّة، باعتبارهما شرطين مُحتّمين لمُحاولة تخفيف وطأة الأزمة الاقتصاديّة الزّاحفة وتطويق آثارها، لا فقط على الطبقة العاملة، بل وأيضا على مجمل الطبقات الشعبيّة والاقتصاد المحلّي بصفة عامّة.

إنّ الإمعان في السّياسة الرّأسماليّة اللّيبراليّة، ومُواصلة المُراهنة على السّوق الخارجيّة وعلى الرّأسمال الأجنبي وتقديم الدّعم له بشتّى الأشكال، وآخرها المائة مليون أورو (حوالي 184 مليار من الملّيمات) التّي "وضعت على ذمّة الشّركات الأجنبية"3 لن يُجدي نفعا. با بالعكس تقتضي مصلحة الشّعب التّونسي الكفّ عن هذه السّياسة وتغيير مسار البلاد.

فتحي الشّامخي

تونس، 17 مارس 2009

1 Banque Centrale de Tunisie: Périodique de conjoncture, numéro 81. Septembre
2008

2 Banque Centrale de Tunisie: Périodique de conjoncture, numéro 82. Décembre 2008

3 نفس المرجع صفحة 7.