الصفحة الأساسية > عربية > أخبار وطنية > بعد قرار طرد السفير السوري في تونس : موقف تعوزه الحكمة وبُعد النظر

بعد قرار طرد السفير السوري في تونس : موقف تعوزه الحكمة وبُعد النظر

الأربعاء 15 شباط (فبراير) 2012

عبد العزيز المسعودي

قررت الحكومة التونسية في الآونة الأخيرة على طرد السفير السوري في تونس، كرد فعل، حسب ما جاء في تصريحات بعض المسؤولين، على المجازر التي ارتكبها النظام السوري في مدينة حماه قبل أيام
وأمام موجة الانتقادات التي أثارها هذا الموقف في الأوساط السياسية والمجتمع المدني، والمتعلقة بتوقيته
وحدته وسياقه واستتباعاته ومدى تأثيره على مصالح الجانبين، وهي تثير تساؤلات وجيهة ومشروعة
وتستدعي إجابة واضحة ومقنعة، اكتفت الحكومة ـ على لسان بعض القائمين على السياسة الخارجية مثلا ـ
بتقديم إجابات وحجج تتسم بالسطحية والالتباس وضعف الحجة وغياب النظرة الاستراتيجية الواضحة للعمل
الدبلوماسي الوطني في مرحلة ما بعد الثورة.

أول هاته الحجج تقوم على أن صحة القرار ومشروعيته تستند الى مبادئ الثورة وقيمها، وهي حجة لا تستقيم، لأن الخلاف لا يدور بالنسبة لأغلب ردود الفعل حول المضمون، وقد سبق لتونس على المستويين الشعبي والرسمي أن اتخذت مواقف واضحة ومبدئية عبرت فيها عن تضامنها المطلق مع الشعب
السوري الشقيق في انتفاضته الشجاعة ضد النظام الدكتاتوري القائم ومطالبه المشروعة للحرية و
الكرامة، وإرساء نظام ديمقراطي عصري يستجيب لتطلعاته في الرقي والتقدم، ومقاومة الفساد العدالة الاجتماعية.
إن الخلاف يقوم اليوم بالأساس حول ما إذا كان من الصواب قطع هذه الخطوة نحو التصعيد مع النظام القائم، وفي استتباعات هذا الموقف، ومدى ملاءمته لمصالح الشعبين، وبهذا المعنى تبدو الحكومة مرتجلة ومتسرعة، ضعيفة وخارجة عن الموضوع، إن لم نقل ديماغوجية.

ويندرج في نفس السياق تأكيد كاتب الدولة لدى وزير الخارجية المكلف بشؤون آسيا وأمريكا بأن
الحكومة قد كانت تعدّ لاتخاذ هذا الموقف منذ مدة، وبأن لديها معطيات وتقارير سرية لا يمكن إفشاء محتواها، وبأن على معارضيها أن يسلموا بأنها قد درست المسألة من كافة جوانبها واتخذت قرارها وفقا للمصلحة
الوطنية العليا، الى غير ذلك من التبريرات التي لا تخلو من التناقض الفاضح، كالزعم بأن الحكومة قد نسّقت مع باقي الحكومات العربية من جهة، والإدعاء في نفس الوقت بأن موقفها كان سياديا وطلائعيا ومثّل قدوة
لباقي الدول العربية للنسج على منواله، في إشارة الى قرار دول مجلس التعاون الخليجي الذي يصب في
نفس الاتجاه
وهي أيضا مغالطة، لأن مواقف ممالك وإمارات الخليج العربي أبعد ما تكون عن تجسيد استقلالية القرار،
أو الدفاع عن مصالح الشعوب العربية، وسيكون من الاستخفاف بذكاء التونسيين وفطنتهم تأكيد عكس ذلك.
لقد بلغ وضع الجامعة العربية اليوم درجة من الاضطراب والتخبط، على خلفية التحولات الكبرى التي
شهدتها المنطقة، يصعب معها أكثر من أي وقت مضى، الحديث عن وجود تصور واضح، وخطة وفاقية
للعمل العربي المشترك، وهي تخضع اليوم الى الابتزاز والتجاذبات التي تمارسها أطراف معروفة، توظف
إمكانياتها المالية ووسائلها الضخمة خدمة للمصالح الغربية والأمريكية منها على وجه الخصوص، التي تؤمن لها في المقابل الدعم واستمرارية نظمها التسلطية المتخلفة.

ألم تقم تلك الدول ذاتها بإرسال قوات "درع الجزيرة " لقمع انتفاضة الشعب البحريني ضد النظام
الملكي المتسلط؟ وبماذا نفسر مواقفها الداعمة للنظام اليمني الذي لا يقلّ تخلفا ودموية في مواجهة
انتفاضة شعبية عارمة ملأت الشوارع والساحات على امتداد الأشهر الماضية؟ وهل يمكن الاطمئنان لبراءة مواقف الدول الغربية التي تتناول باحتشام تلك التجاوزات الصارخة لحقوق الانسان في الدول الحليفة لها، بل أنها لم تتوان في الضغط على المعارضة
اليمنية لتمرير قرار يعطي الحصانة للرئيس اليمني ضد أي تتبع قانوني يطاله على جرائمه، في الوقت الذي يطالب فيه الشعب الثائر بمحاكمته وتسليط أقصى العقوبات عليه؟

إن غض الطرف عن هذه المعطيات، والتركيز فقط على جانب واحد، أيا تكن أهميته ووجاهته، لا يمكن أن يقود الى اتخاذ الموقف المناسب، فالولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون يتصرفون وفق خطة استراتيجية ممنهجة تستهدف تهيئة الظروف لتدخل عسكري في سوريا، على شاكلة ما حدث في ليبيا، بذريعة اسقاط النظام الدكتاتوري، يتم خلالها إنهاك سوريا، وهي احدى دول المواجهة العربية لإسرائيل التي تحتل جزءا من ترابها الوطني، أو الدفع الى حرب أهلية قابلة للاشتعال في أي وقت، باللعب على وتر الخلافات الطائفية والمذهبية في بلد متعدد المكونات الدينية والاثنية، بما يؤدي الى تفتيت البلاد وتقسيمها، وإحكام السيطرة على قدراتها الاقتصادية والعسكرية ومصادرة قرارها الوطني، وفق ما يعرف بـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، ولنا فيما حدث ويحدث في العراق وليبيا والسودان مواعظ ودروس جديرة بالتأمل والاعتبار.

إن موقف الحكومة التونسية من زاوية النظر هذه، يأتي في توقيت سيء، حيث تستعجل الولايات المتحدة استصدار قرار أممي يفتح امكانيات التدخل الخارجي في شؤونها على مصراعيه، أو على الأقل الى شرعنة تسليح أجزاء من المعارضة السورية، التي التجأت الى العمل العسكري بدعم وتأطير وتمويل سخي من بعض الأطراف الاقليمية والدولية، والنتيجة الممكنة الوحيدة له ستكون المساهمة في عزلة سوريا عربيا، وهو ما يصب في مصلحة القوى ذاتها التي تريد اخراج "الحالة السورية" من الإطار العربي، ومن نتائجه السلبية كذلك الدفع نحو تصلب المعارضة المسلحة، والى الزيادة في حدة المواجهات المسلحة مع الجيش والقوى الأمنية، بما سيؤدي الى المزيد من الضحايا المدنيين، والى مزيد تعفن الوضع، مما يجعل التدخل الخارجي أمرا لا مفر منه.

فهل من الحكمة اذن المساهمة في صب الزيت على النار في هذه المنطقة المضطربة، المثقلة أصلا بالنزاع العربي الاسرائيلي وبالارتفاع المطرد في درجات حرارة "الحرب البادرة" بين إيران والغرب؟ وماذا ستكسب تونس من اندلاع حريق هائل في المنطقة، لا يتجرأ أحد على التكهن بحجم الكارثة التي سيسببها؟

كان من الأفضل والأجدى لديبلوماسيينا التحلي بما يلزم من الحكمة والرصانة وبعد النظر، والموزانة بين مختلف جوانب هذه المسألة وتشعباتها وتعقيداتها، وعدم الزجّ ببلادنا، انطلاقا من تحاليل تبدو انفعالية باسم الوفاء لمبادئ الثورة، في معسكر القوى الكبرى التي لها أجندات ومصالح تتعارض مع المصالح الحيوية لشعبنا وباقي الشعوب العربية، ولم يتم اعتبار موقف الصين وروسيا، القوتين الصاعدتين اللتين تدفعان نحو التوصل الى حل، يكون فيه الضغط الدولي باتجاه تيسير سبل إيجاد حل سلمي يؤمن الاستجابة للمطالب المشروعة للشعب السوري، ويجنب بلاده مخاطر مزيد من الانزلاق نحو العنف، ولنا في مثال الثورات السلمية في تونس ومصر واليمن، وما يجري حاليا في البحرين ما يكفي للتدليل على أن الشعوب المتمسكة بمطالبها والمجندة للدفاع عنها، لا بد لها أن تحقق نصرا مبينا على الأنظمة المتسلطة، مهما كان عنفها وجبروتها، وبأقل التكاليف الممكنة.